شهدت الجزائر في الآونة الأخيرة إحياء ذكرى العالم الراحل “مولود قاسم نايت بلقاسم”، من قبل جريدة الشروق اليوميّ أوسع الجرائد العربية انتشارا، هذا الرجل الذي لا يمكن للذاكرة الإنسانية أن تنساه، ولا يملّ اللسان من الثناء عليه والدعاء له، حيث كان أحد أبرز رموز الجزائر بعد الاستقلال، فهذا السياسيّ الكبير تميّز عن غيره من الساسة بما أعطاه الله تعالى من علم غزير طعّمه بتواضعه الكبير، يعرفه العرب والمسلمون من خلال جهوده في افتتاح ملتقيات الفكر الإسلاميّ في الجزائر في سبعينيات القرن الماضي.
هذا العالم “البجاويّ” الأمازيغيّ الذي استمات في الدفاع عن اللغة العربية، كان يحسن تسع لغات عالمية، لكنّه قرّر أن تكون اللغة العربية التي عشقها وأحبّها من صميم قلبه، اللغة التي تتربّع عالية كأولوية مقدّسة طوال حياته، إذ قرّر الرجل أن يدافع عنها من منصبه وزيرا للشؤون الدينية في الجزائر، ليؤكّد للعالم بأسره أنّ الهوية العربية والإسلامية أهمّ مكوّنات الذات الجزائرية، وأنها مبعث فخر وقوّة مستديمة أمام الآخر، خصوصا المحتلّ الفرنسيّ السابق الذي لا تهدأ آلته الفكرية في فرض نمط الهيمنة الثقافية على الشعب الجزائريّ رغم نيل الاستقلال.
قام أكثر من عشرين عالما جزائريا بتكريم العلامة الكبير، مولود قاسم نايت بلقاسم، بمبادرة من جريدة الشروق اليومي الجزائرية، في شهر رمضان المبارك لسنة 1430 هجرية، مولود قاسم نايت بلقاسم، الرجل المتواضع الذي ترك بصمات خالدة في تاريخ الجزائر، جسدها رصيده الحافل من الانجازات الكبرى، التي جعلت رفقاء دربه ممن حضروا تكريمه يثنون عليه، ويعترفون أنّه أعطى للجزائر وحده الكثير، بفضل عبقريته السياسية وقدرته على توظيف إمكاناته كوزير في الحكومة، في جعل الدفاع عن العروبة والإسلام من أبرز المهام الحضارية التي تتميز بها صورة الجزائر المستقلّة لدى الآخر، واستغلال التوهّج الثوريّ للشعب الجزائريّ، المفتخر بثورته المباركة التي ركّعت واحدة من أكثر قوى “الاستدمار القديم” كما كان يسميها نايت بلقاسم، الاستدمار الفرنسيّ الذي سعى جاهدا إلى إلغاء هوية الجزائريين، وفشل فشلا ذريعا أمام شعب عربيّ مسلم قويّ يرفض الاستعباد.
مولده ونشأته، وقصته مع الشيخ آيت علجت
إنه أمازيغي ابن فلاح عباسي قبائلي، ولد في يناير سنة 1927 بقرية آيت عباس بمدينة بجاية الإسلاميّة الواقعة في منطقة القبائل الكبرى، أو كما تعرف بمنطقة “جبال جرجرة”، والتي لعبت دورا تاريخيا هاما أثناء الثورة الجزائرية، فمولود قاسم المجاهد الكبير في ثورة التحرير المباركة، كان مناضلا سياسيا نشطا في الدفاع عن قضية وطنه العادلة، وكان المجاهدون يطلقون عليه اسما ثوريا مميزا وهو: السّي “بلقاسم الوطني”، فدفاعه عن وطنه العربيّ المسلم يذكّرنا بالدور الكبير للقائد الأمازيغي طارق بن زياد في إعلاء كلمة الله أثناء فتح الأندلس. شهادة الشيخ “محمد الطاهر آيت علجت” حول مولود قاسم نايت بلقاسم كانت ثرية حقا، فهذا الشيخ هو من تولّى تدريس نايت بلقاسم مذ كان طفلا صغيرا، كما أنّه كان صديقا لوالده وأقرب جار له في قرية آيت عباس، وقال الشيخ آيت علجت أنّ مولود قاسم كان تلميذا نجيبا في صغره، وقد برز نبوغه عندما كان يدرس القرآن والحديث في مسجد القرية، وقال أنّ الله استجاب لدعوة والده الذي دعا له أن يصبح فقيها في الدين، ولمّا كتب له التوجّه للمدرسة الفرنسية في سنّ السادسة عشرة حيّر مولود قاسم مدرّسيه الفرنسيين لشدّة نبوغه وقوة ذاكرته، وحبّه الشديد لوطنه وللغته العربية ودينه الإسلاميّ، وبسبب بعده عن مقرّ سكناه قرّر مولود قاسم ترك تلك المدرسة الفرنسية التي كان يطلق عليها الشيخ بن باديس اسم “القلعة”، وكان مولود قاسم يحبّ مخالطة من يكبره سنّا ليحرق مراحل تكوينه التعليميّ، وساهمت مبادراته العصامية في زيادة نبوغه ونجاحه الدراسيّ.
توجّه بعدها إلى تونس لمواصلة دراسته حيث كانت الدراسة متاحة في تونس أكثر من الجزائر التي عانت من مؤامرات الفرنسيّين ومساعيهم لتجهيل الشعب الجزائريّ، ثمّ التحق مولود بجامع الزيتونة سنة 1946، والتحق بعدها بحزب الشعب سنة 1947، قبل أن يبتعث إلى القاهرة تكريما له باعتباره الأول على الدفعة، وفي سنة 1954 التحق بجامعة باريس التي سجّل فيها أطروحته لنيل الدكتوراه، والتي حملت عنوان: “الحرية عند المعتزلة”، غير أنّه تخلّى عن المشروع سنة 1956 على اثر مضايقات الشرطة الفرنسية له والتي فرضت عليه مغادرة البلاد بسبب استجابته لنداء الإضراب الذي دعا إليه اتحاد الطلبة المسلمين، وتوجه بعدها إلى دولة التشيك، والتي سجّل بجامعتها مشروع أطروحة دكتوراه بعنوان “الحرية عند كانط”، وما لبث برهة في التشيك، حتى دعاه نداء الوطن فترك مشروعه البحثيّ متجها نحو ألمانيا، حيث كلّفه المفاوض الجزائريّ “سعد دحلب” بكتابة ردّ على المفاوض الفرنسيّ جوكس في مفاوضات إيفيان سنة 1961، حول إصرار الجزائريين على رفض فصل الصحراء الجزائرية، ولولا أنّه اختار رحمه الله خطّ الدراسات الإنسانية والاجتماعية لكان قد أصبح طيّارا كما رشّحه مدّرسوه لشدّة ذكائه وفطنته.
يضحّي بشهادة الدكتوراه… لعيون الجزائر
كان مولود قاسم نايت بلقاسم قادرا على نيل شهادة الدكتوراه غير انّه آثر تلبية نداء الوطن، وقد تبيّن له أنّ دوره في ألمانيا مفيد ومساعد في الثورة الجزائرية، وعندما نالت الجزائر استقلالها كان هدف نيل شهادة الدكتوراه ما زال قائما، غي أنّ الجزائر كانت بحاجة إلى وقفة رجل شجاع للنهوض باللغة العربية من جديد استكمالا لجهود الشيخين عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي، اللذان أسسا جمعية العلماء المسلمين الجزائريين مطلع ثلاثينيات القرن الماضي بجهود متواضعة، لم تستطع وقف المدّ الكبير للغة الفرنسية في الجزائر، وقال مولود قاسم متحدّيا الفرنكوفونيين، حيث كان يعلم تماما كيف يفكّون، فقال لهم: “أنّ اللغة العربية كانت لغة العالم في يوم من الأيام، وأنّها كانت تقود العقول وتطوّر العلوم”، وكان مدافعا شرسا عن اللغة العربية من خلال إشرافه على المجلس الأعلى للغة العربية، كما انّه لم يتوانى عن الكتابة حول الموضوع، خصوصا في مقاله الشهير المنشور في مجلة “الثقافة” الجزائرية، والذي حمل عنوان: “بجاية الإسلام علّمت أوروبا الرياضيات بلغة العروبة”، وهو البحث الهام الذي جاء فيه بقيمة مضافة على الصعيد الفكريّ، حين أثبت أنّ اللغة العربية قادرة على استيعاب كل العلوم.
يقول الدكتور “يوغرطة نايت بلقاسم” أنّ أباه كان محبّا للغة العربية ومدافعا كبيرا عنها، وأنّه كان ينعزل وحده في حزن عميق حين تمّ التراجع عن “قانون التعريب” عام 1992، وكان دق أحرز تقدّما كبيرا في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، وقد روى عنه ابنه أنّه كان شديدا مع أبنائه في دعوته لتعلّم اللغة العربية، فكان أمرهم بالمطالعة حتى عند الحلاق، وقد سأله الكثيرون عن سبب اختيار اسم يوغرطة الأمازيغي لابنه فقال: “يوغرطة* هو* أعظم* ملوك* الجزائر* عبر* التاريخ*”، كما أنّه كان يجيب المشككين بأن له ابنة أخرى سمّاها: “جزائر”.
شهادة أصدقائه برهان على نضاله
أنشأ محبو مولود قاسم نايت بلقاسم جمعية تعنى بحماية ما تركه العلامة الراحل من زاد الفكريّ متمثّل في عشرات الكتب والمقلات والدراسات والصور الهامة، التي تؤكّد مساعيه المخلصة في الدفاع عن اللغة العربية، وتردّ على الكتابات المشكّكة في نضاله الكبير رحمه الله، وقد قال فيه صديقه الكاتب أحمد بن نعمان: “مولود قاسم نايت بلقاسم كان يجيد 09 لغات ولهجات أوروبية محلية، تعلمها بمفرده دون اللجوء إلى المدارس، وقال عنه أيضا: “لقد عرفت مولود قاسم فردا في أمة، وفارقته وهو أمة في فرد، لقد كان شخصية عبقرية فريدة من نوعها جمعت بين العلم والأصالة والحكمة، كان يدافع عن الإسلام والعربية بشراسة منقطعة النظير، وكان ينفق 99 بالمائة من وقته في المطالعة والمعرفة، لدرجة أني كنت أشفق عليه.. لقد استطاع من خلال معرفته المدهشة باللغات خدمة القضية الجزائرية في العديد من الدول الأوروبية، أين كتبت الكثير من الصحف عن الثورة وبطولات الشعب الجزائري”.
كان مولود قاسم نايت بلقاسم يحوز مكانة هامة في الحكومة، كونه مترجما بارعا تولّى ترجمة كلّ ما يكتب عن الجزائر في الصحف الأوروبية، إذ كان يحسن تسع لغات عالمية حتى القديمة منها كاللاتينية، وكان مولود قاسم رجل عصاميّا تولى تكوين نفسه بنفسه حتّى وصل إلى إتقان هذه اللغات بلهجاتها المحليّة بكلّ طلاقة، وسخّر هذه القدرة في خدمة البلد في فترة الاستعمار وبعد الاستقلال، إلى درجة أنّه كان يشتغل في بيته ليبقى متابعا لكلّ ما يكتب عن الجزائر.
نقل عنه محمد الصغير بلعلام أحد أصدقائه الأوفياء، أنّ مولود قاسم كان يعتبر فكرة “حوار الديانات” آخر الأساليب الغربيّة المبتكرة لتنصير الشباب، لانّ لكل دين خصوصيته وأصوله وقواعده، وقال بلعلام في شهادته التاريخية المميزة أثناء لقاء تكريم الراحل مولود قاسم، أنّ الفقيد قد أقسم بألاّ يوقّع على أيّة وثيقة جزائرية باللغة الفرنسية، كما أنّه قرّر ألاّ يرد على أيّ بريد يرد إليه إلاّ باللغة العربية، وقال موظفو الوزارة التي كان يقودها أنّه كان صارما في التشديد على أهمية تشكيل الكلمات العربية باستخدام الآلة الراقنة لتوصيل المعاني الصحيحة بين الوزارات الحكومية، وقيل أنّه قام بجلب كتب اللغة العربية من دمشق وبغداد وزوّد بها مقرّ حزب جبهة التحرير الوطنيّ لرعاية مشروع تعريب الجامعة الجزائرية، لكنّه فوجئ باختفائها فيما بعد، فشاهد في دهشة مشروع التعريب وهو يفكّك أمام عينه دون قدرة على التحرّك لوقف تلك المؤامرة.
شهادة أخرى قدّمها المجاهد والمناضل والسياسيّ الكبير عبد الحميد مهري في حقّ مولود قاسم نايت بلقاسم رفيق دربه وزميل دراسته، حيث اعتبره مهري شخصية متعدّدة المواهب، وقال انّه كان مكسبا للجزائر حقّا، ذلك أنّ إسهام نايت بلقاسم في إثراء الحياة السياسية بفكره كان بنيّة جمعه رحمه الله بين هدفي الدفاع عن الأصالة والانتماء العربيّ والإسلاميّ وللامازيغية، والانفتاح على العالم، كما أنّه ساهم في تقديم صورة جميلة عن الجزائر العريقة التي تحافظ على التقاليد وتسعى نحو الحداثة والعصرنة، بمعنى أنّه كان يسعى للمزاوجة بين مسعى ترسيخ قيم إسلام والعروبة وتوطين الحداثة والتقدّم، وقال عبد الحميد مهري أنّ مولود قاسم نايت بلقاسم: “كان يكرّس معالم النهضة في ملتقيات الفكر الإسلامي”، معتبرا أنّ من انتقده ذلك الوقت كان يريد أن يلصق به تهمة التشدّد، وهو لم يكن ليألو أيّ جهد في سبيل الوصول إلى ما كان يصبو إليه.
حبّه الشديد للجزائر واللغة العربية
كان مولود قاسم آيت بلقاسم مدافعا قويا عن الجزائر، وكان يحرّض الجزائر برمتها حكومة وشعبا حتى تلعب الجزائر دورها التاريخيّ أمام المستدمر الفرنسيّ السابق، الذي نهب ثروات البلاد قبل الاستقلال وقتل شعب الجزائر ودمّر أرضه، وهو يسعى بعد الاستقلال في سبيل تشويه تاريخ الجزائر، وقال للرئيس هواري بومدين حين قال له الرئيس الفرنسيّ السابق جيسكار ديستان: “إنّ فرنسا التاريخية تمدّ يدها للجزائر الفتيّة”، قال للرئيس بومدين: “سيادة الرئيس إنّه جيسكار ديستان يشتمنا”، وكأنّي به مذكّرا الجزائريين بأنّ فرنسا تسعى للتشكيك في الكيان الجزائريّ الذي تدّعي أنّه لم يكن موجودا قبل سنة 1830، ويذكّرنا موقفه هذا بقولة الشيخ عبد الحميد بن باديس الشهيرة: “لو قالت لي فرنسا قل لا إله إلا الله لما قلتها”، لقد كان مولود قاسم صارما وشديدا بهذا الخصوص أيضا، وقال مخاطبا الرئيس بومدين: “أفضّل أن أكون بوابا في السويد على أن أكون وزيرا في حكومة ضعيفة في الجزائر”، وقد روي أنّه قرّر عدم النزول من الطائرة في زيارة كان قد أجراها لروسيا سنة 1971 لأنّ وزير الخارجية الروسيّ لم يكن في استقباله، قائلا أنّه يرفض هذه السلوكات التي تنتقص من قيمة الجزائر، وعلى إثر هذه الحادثة قدّم استقالته إلى الرئيس بومدين لكنّ الأخير رفضها، فدعا مولود قاسم نايت بلقاسم القيادة الجزائرية إلى التشدّد في الدفاع عن مصالح الشعب والوطن.
درس مولود قاسم نايت بلقاسم تاريخ الجزائر وتمعّن في أصل شعبه الأمازيغيّ، ووجد أنّ على الجزائريين الافتخار بأجدادهم الأمازيغيين، مذكّرا بدور القائد الإسلاميّ الكبير طارق بن زياد في الفتوحات الإسلامية وفتح الأندلس، ولشدّة حبّه للتاريخ الأمازيغيّ أطلق اسم يوغرطة على نجله الأكبر. وكان يؤلمه كثيرا لجوء بعض الإخوة العرب إلى التشكيك في عروبة الجزائر، وكان غضبه حيال تلك الأقاويل لا يقلّ عن غضب الشيخ البشير الإبراهيميّ الذي كان يقاوم كذلك مثل هذه الإدّعاءات، إذ يقال أنّ الأديب المصري الراحل، دكتور طه حسين ألقى خطابا في حضرة الكتّاب العرب في خمسينيات القرن الماضي بالقاهرة، وقال: “أحسب أنّ العالم العربي مثل طائر إحدى جناحيه في سوريا والعراق والأخر في الخليج العربي، وقلبه في مصر، وذيله في المغرب العربي”، ويقال أنّ رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشيخ الإبراهيميّ قد استشاط غضبا، وقال في ردّه على هذا المثال: “أحسب أنّ الدكتور الفاضل طه حسين كان يقصد في مثاله “طائر الطاووس” وأجمل ما فيه ذيله”.
هذه المسألة أشار إليها الدكتور عبد المالك مرتاض الذي لام كثيرا -في سياق آخر- تجاهل الإخوة العرب لإخوانهم الجزائريين والمغاربة، فقال: “في الوقت الذي يعرف فيه الجزائريون كل شيء عن المشرق لا يعرف المشارقة أي شيء عن الجزائر”، وبهذا الخصوص نستحسن جهود مجلة العربي المرموقة في السعي إلى جسر الهوة بين المشرق والمغرب، في مشروعها البحثيّ السبّاق، والموسوم بـ: “حوار المشارقة والمغاربة”، والذي شارك في إعداده عدد من الكتاب المغاربة المرموقين إضافة إلى كتاب المشرق العربيّ، لنقل جزء من الحقائق المجهولة عن إخوانهم في المغرب العربيّ.
مولود بلقاسم… وضوح الرؤية
رفض مولود قاسم نايت بلقاسم أداء الخدمة الوطنية في صفوف الجيش الفرنسيّ عندما كان شابا أثناء فترة الاستخراب الفرنسيّ، وكان قد قرّر حينها الاعتكاف في الزاوية الدينية والاشتغال بتعلّم الفقة وعلوم الدين وحفظ القرآن الكريم والتفاسير، وكان لا يخشى عصيان السلطات الفرنسية لأنّّه رفض بشدّة الدفاع عن العلم الفرنسيّ قائلا أنّه لن يدافع إلاّ عن العلم الجزائريّ، وهو ما يبرّر رعايته عندما كان وزيرا للشؤون الدينية لمتقيات الفكر الإسلاميّ في سبعينيات القرن الماضي، حيث كان دارسا للفقه والفكر الإسلاميّ، وقد لقيت مبادرة ملتقيات الفكر الإسلاميّ استحسان الشيخ محمد الغزالي رحمه الله عندما كان يرأس جامعة الأمير عبد القادر الإسلامية بمدينة قسنطينة، ويذكر الجزائريون قولة الشيخ الغزالي عن الملتقيات التاريخية التي رعاها العلامة مولود قاسم، حين قال في مرّة من المرّات: “تذكرني هذه الحرية الفكرية في الجزائر، بموقف طريف حدث بين أخوين مسلمين في أمريكا، كانا يتحاوران في حرية فكرية، وكان أحدهما محبا لسيدنا عليّ كرّم الله وجهه والآخر محبا لسيدنا عثمان بن عفّان رضي الله عنه، وبجانبهما مواطن أمريكيّ، فسألهما قائلا: هل هذان الرجلان مرشحان للرئاسة في بلدكما؟، فقالا له لا، لقد حدث ذلك قبل 14 قرنا، فتعجّب الرجل وقال: بعد كلّ هذه القرون ولا تزالان تناقشان برامجهما الانتخابية؟”، فضحك جمهور ملتقيات الفكر الإسلاميّ ومنهم العلامة مولود قاسم نايت بلقاسم.
مولود قاسم… التواضع والأنفة
فجّر الدكتور بوعلام بن حمودة الأمين العام السابق لحزب جبهة التحرير الوطنيّ مفاجأة بقوله أنّه كان دائم التحايل على مولود قاسم نايت بلقاسم داعيا إيّاه للسعي إلى استرجاع اسمه الثوريّ، لضمان حقوقه ومصالحه الاجتماعية، غير أنّ الرجل رفض في غضب شديد، قائلا أنّه لم يكن يريد مقابلا عن واجب طلبته الجزائر، فأجمل كلمة تصف الرجل أنّه “خدم دينه ولغته ووطنه بشكل أسطوري”.
وقال الشيخ بوعمران رئيس المجلس الإسلاميّ الأعلى أنّه وقف على عظمة مولود قاسم نايت بلقاسم عندما سافر معه إلى ملتقى إسلاميّ عقد في قرطبة اسبانيا، وقال أنّ للرجل ثقافة واسعة وخبرة في عدّة لغات عالمية جعلته يندهش من معرفة هذه الحقيقة، وقال أنّ شغفه لتعلّم المزيد من المعارف كان كبيرا، حيث كان يسأل الشيخ بوعمران أن يدلّه على المساجد والمكتبات الموجودة في اسبانيا والتي لم يكن يعرفها.
كان العلامة الراحل مولود قاسم نايت بلقاسم مسكونا بمصير اللغة العربية وبهموم الأمة الإسلامية رحمه الله، لذلك كان دائما يحثّ أبناءه على حبّ الإسلام واللغة العربية، لقد كان رجلا محبا لانتمائه العربي الإسلاميّ، قاصدا في الدفاع عن العروبة إذا فعل، ومبرزا لدور الحضارة الإسلامية في المحافل الدولية، رجل جمع بين الأصالة والمعاصرة، قوي العزيمة سديد الكلمة، كبير الشأن رفيع المقام، هذا العالم الذي خصّه الرئيس الراحل هواري بومدين بمكانة خاصة حين عيّنه وزيرا في حكومته، وكلّفه بتولي مشروع “التعريب” في البلاد، بدء بالتعليم في الجزائر التي انتشرت بها لغة الهيمنة الفرنسية بعد 132 عاما من الاستخراب الفرنسيّ للعقول والنفوس الجزائرية العربية المسلمة، لذلك لا بدّ على أبنائه في الجزائر أن يسعوا لحماية اللغة العربية والدفاع عن القيم الإسلامية والتشبّث بها في ظلّ استمرار المدّ الثقافيّ الفرنكفونيّ في الجزائر، لأولى معاقل اللغة الفرنسية في العالم بعد فرنسا.
هذا العالم “البجاويّ” الأمازيغيّ الذي استمات في الدفاع عن اللغة العربية، كان يحسن تسع لغات عالمية، لكنّه قرّر أن تكون اللغة العربية التي عشقها وأحبّها من صميم قلبه، اللغة التي تتربّع عالية كأولوية مقدّسة طوال حياته، إذ قرّر الرجل أن يدافع عنها من منصبه وزيرا للشؤون الدينية في الجزائر، ليؤكّد للعالم بأسره أنّ الهوية العربية والإسلامية أهمّ مكوّنات الذات الجزائرية، وأنها مبعث فخر وقوّة مستديمة أمام الآخر، خصوصا المحتلّ الفرنسيّ السابق الذي لا تهدأ آلته الفكرية في فرض نمط الهيمنة الثقافية على الشعب الجزائريّ رغم نيل الاستقلال.
قام أكثر من عشرين عالما جزائريا بتكريم العلامة الكبير، مولود قاسم نايت بلقاسم، بمبادرة من جريدة الشروق اليومي الجزائرية، في شهر رمضان المبارك لسنة 1430 هجرية، مولود قاسم نايت بلقاسم، الرجل المتواضع الذي ترك بصمات خالدة في تاريخ الجزائر، جسدها رصيده الحافل من الانجازات الكبرى، التي جعلت رفقاء دربه ممن حضروا تكريمه يثنون عليه، ويعترفون أنّه أعطى للجزائر وحده الكثير، بفضل عبقريته السياسية وقدرته على توظيف إمكاناته كوزير في الحكومة، في جعل الدفاع عن العروبة والإسلام من أبرز المهام الحضارية التي تتميز بها صورة الجزائر المستقلّة لدى الآخر، واستغلال التوهّج الثوريّ للشعب الجزائريّ، المفتخر بثورته المباركة التي ركّعت واحدة من أكثر قوى “الاستدمار القديم” كما كان يسميها نايت بلقاسم، الاستدمار الفرنسيّ الذي سعى جاهدا إلى إلغاء هوية الجزائريين، وفشل فشلا ذريعا أمام شعب عربيّ مسلم قويّ يرفض الاستعباد.
مولده ونشأته، وقصته مع الشيخ آيت علجت
إنه أمازيغي ابن فلاح عباسي قبائلي، ولد في يناير سنة 1927 بقرية آيت عباس بمدينة بجاية الإسلاميّة الواقعة في منطقة القبائل الكبرى، أو كما تعرف بمنطقة “جبال جرجرة”، والتي لعبت دورا تاريخيا هاما أثناء الثورة الجزائرية، فمولود قاسم المجاهد الكبير في ثورة التحرير المباركة، كان مناضلا سياسيا نشطا في الدفاع عن قضية وطنه العادلة، وكان المجاهدون يطلقون عليه اسما ثوريا مميزا وهو: السّي “بلقاسم الوطني”، فدفاعه عن وطنه العربيّ المسلم يذكّرنا بالدور الكبير للقائد الأمازيغي طارق بن زياد في إعلاء كلمة الله أثناء فتح الأندلس. شهادة الشيخ “محمد الطاهر آيت علجت” حول مولود قاسم نايت بلقاسم كانت ثرية حقا، فهذا الشيخ هو من تولّى تدريس نايت بلقاسم مذ كان طفلا صغيرا، كما أنّه كان صديقا لوالده وأقرب جار له في قرية آيت عباس، وقال الشيخ آيت علجت أنّ مولود قاسم كان تلميذا نجيبا في صغره، وقد برز نبوغه عندما كان يدرس القرآن والحديث في مسجد القرية، وقال أنّ الله استجاب لدعوة والده الذي دعا له أن يصبح فقيها في الدين، ولمّا كتب له التوجّه للمدرسة الفرنسية في سنّ السادسة عشرة حيّر مولود قاسم مدرّسيه الفرنسيين لشدّة نبوغه وقوة ذاكرته، وحبّه الشديد لوطنه وللغته العربية ودينه الإسلاميّ، وبسبب بعده عن مقرّ سكناه قرّر مولود قاسم ترك تلك المدرسة الفرنسية التي كان يطلق عليها الشيخ بن باديس اسم “القلعة”، وكان مولود قاسم يحبّ مخالطة من يكبره سنّا ليحرق مراحل تكوينه التعليميّ، وساهمت مبادراته العصامية في زيادة نبوغه ونجاحه الدراسيّ.
توجّه بعدها إلى تونس لمواصلة دراسته حيث كانت الدراسة متاحة في تونس أكثر من الجزائر التي عانت من مؤامرات الفرنسيّين ومساعيهم لتجهيل الشعب الجزائريّ، ثمّ التحق مولود بجامع الزيتونة سنة 1946، والتحق بعدها بحزب الشعب سنة 1947، قبل أن يبتعث إلى القاهرة تكريما له باعتباره الأول على الدفعة، وفي سنة 1954 التحق بجامعة باريس التي سجّل فيها أطروحته لنيل الدكتوراه، والتي حملت عنوان: “الحرية عند المعتزلة”، غير أنّه تخلّى عن المشروع سنة 1956 على اثر مضايقات الشرطة الفرنسية له والتي فرضت عليه مغادرة البلاد بسبب استجابته لنداء الإضراب الذي دعا إليه اتحاد الطلبة المسلمين، وتوجه بعدها إلى دولة التشيك، والتي سجّل بجامعتها مشروع أطروحة دكتوراه بعنوان “الحرية عند كانط”، وما لبث برهة في التشيك، حتى دعاه نداء الوطن فترك مشروعه البحثيّ متجها نحو ألمانيا، حيث كلّفه المفاوض الجزائريّ “سعد دحلب” بكتابة ردّ على المفاوض الفرنسيّ جوكس في مفاوضات إيفيان سنة 1961، حول إصرار الجزائريين على رفض فصل الصحراء الجزائرية، ولولا أنّه اختار رحمه الله خطّ الدراسات الإنسانية والاجتماعية لكان قد أصبح طيّارا كما رشّحه مدّرسوه لشدّة ذكائه وفطنته.
يضحّي بشهادة الدكتوراه… لعيون الجزائر
كان مولود قاسم نايت بلقاسم قادرا على نيل شهادة الدكتوراه غير انّه آثر تلبية نداء الوطن، وقد تبيّن له أنّ دوره في ألمانيا مفيد ومساعد في الثورة الجزائرية، وعندما نالت الجزائر استقلالها كان هدف نيل شهادة الدكتوراه ما زال قائما، غي أنّ الجزائر كانت بحاجة إلى وقفة رجل شجاع للنهوض باللغة العربية من جديد استكمالا لجهود الشيخين عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي، اللذان أسسا جمعية العلماء المسلمين الجزائريين مطلع ثلاثينيات القرن الماضي بجهود متواضعة، لم تستطع وقف المدّ الكبير للغة الفرنسية في الجزائر، وقال مولود قاسم متحدّيا الفرنكوفونيين، حيث كان يعلم تماما كيف يفكّون، فقال لهم: “أنّ اللغة العربية كانت لغة العالم في يوم من الأيام، وأنّها كانت تقود العقول وتطوّر العلوم”، وكان مدافعا شرسا عن اللغة العربية من خلال إشرافه على المجلس الأعلى للغة العربية، كما انّه لم يتوانى عن الكتابة حول الموضوع، خصوصا في مقاله الشهير المنشور في مجلة “الثقافة” الجزائرية، والذي حمل عنوان: “بجاية الإسلام علّمت أوروبا الرياضيات بلغة العروبة”، وهو البحث الهام الذي جاء فيه بقيمة مضافة على الصعيد الفكريّ، حين أثبت أنّ اللغة العربية قادرة على استيعاب كل العلوم.
يقول الدكتور “يوغرطة نايت بلقاسم” أنّ أباه كان محبّا للغة العربية ومدافعا كبيرا عنها، وأنّه كان ينعزل وحده في حزن عميق حين تمّ التراجع عن “قانون التعريب” عام 1992، وكان دق أحرز تقدّما كبيرا في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، وقد روى عنه ابنه أنّه كان شديدا مع أبنائه في دعوته لتعلّم اللغة العربية، فكان أمرهم بالمطالعة حتى عند الحلاق، وقد سأله الكثيرون عن سبب اختيار اسم يوغرطة الأمازيغي لابنه فقال: “يوغرطة* هو* أعظم* ملوك* الجزائر* عبر* التاريخ*”، كما أنّه كان يجيب المشككين بأن له ابنة أخرى سمّاها: “جزائر”.
شهادة أصدقائه برهان على نضاله
أنشأ محبو مولود قاسم نايت بلقاسم جمعية تعنى بحماية ما تركه العلامة الراحل من زاد الفكريّ متمثّل في عشرات الكتب والمقلات والدراسات والصور الهامة، التي تؤكّد مساعيه المخلصة في الدفاع عن اللغة العربية، وتردّ على الكتابات المشكّكة في نضاله الكبير رحمه الله، وقد قال فيه صديقه الكاتب أحمد بن نعمان: “مولود قاسم نايت بلقاسم كان يجيد 09 لغات ولهجات أوروبية محلية، تعلمها بمفرده دون اللجوء إلى المدارس، وقال عنه أيضا: “لقد عرفت مولود قاسم فردا في أمة، وفارقته وهو أمة في فرد، لقد كان شخصية عبقرية فريدة من نوعها جمعت بين العلم والأصالة والحكمة، كان يدافع عن الإسلام والعربية بشراسة منقطعة النظير، وكان ينفق 99 بالمائة من وقته في المطالعة والمعرفة، لدرجة أني كنت أشفق عليه.. لقد استطاع من خلال معرفته المدهشة باللغات خدمة القضية الجزائرية في العديد من الدول الأوروبية، أين كتبت الكثير من الصحف عن الثورة وبطولات الشعب الجزائري”.
كان مولود قاسم نايت بلقاسم يحوز مكانة هامة في الحكومة، كونه مترجما بارعا تولّى ترجمة كلّ ما يكتب عن الجزائر في الصحف الأوروبية، إذ كان يحسن تسع لغات عالمية حتى القديمة منها كاللاتينية، وكان مولود قاسم رجل عصاميّا تولى تكوين نفسه بنفسه حتّى وصل إلى إتقان هذه اللغات بلهجاتها المحليّة بكلّ طلاقة، وسخّر هذه القدرة في خدمة البلد في فترة الاستعمار وبعد الاستقلال، إلى درجة أنّه كان يشتغل في بيته ليبقى متابعا لكلّ ما يكتب عن الجزائر.
نقل عنه محمد الصغير بلعلام أحد أصدقائه الأوفياء، أنّ مولود قاسم كان يعتبر فكرة “حوار الديانات” آخر الأساليب الغربيّة المبتكرة لتنصير الشباب، لانّ لكل دين خصوصيته وأصوله وقواعده، وقال بلعلام في شهادته التاريخية المميزة أثناء لقاء تكريم الراحل مولود قاسم، أنّ الفقيد قد أقسم بألاّ يوقّع على أيّة وثيقة جزائرية باللغة الفرنسية، كما أنّه قرّر ألاّ يرد على أيّ بريد يرد إليه إلاّ باللغة العربية، وقال موظفو الوزارة التي كان يقودها أنّه كان صارما في التشديد على أهمية تشكيل الكلمات العربية باستخدام الآلة الراقنة لتوصيل المعاني الصحيحة بين الوزارات الحكومية، وقيل أنّه قام بجلب كتب اللغة العربية من دمشق وبغداد وزوّد بها مقرّ حزب جبهة التحرير الوطنيّ لرعاية مشروع تعريب الجامعة الجزائرية، لكنّه فوجئ باختفائها فيما بعد، فشاهد في دهشة مشروع التعريب وهو يفكّك أمام عينه دون قدرة على التحرّك لوقف تلك المؤامرة.
شهادة أخرى قدّمها المجاهد والمناضل والسياسيّ الكبير عبد الحميد مهري في حقّ مولود قاسم نايت بلقاسم رفيق دربه وزميل دراسته، حيث اعتبره مهري شخصية متعدّدة المواهب، وقال انّه كان مكسبا للجزائر حقّا، ذلك أنّ إسهام نايت بلقاسم في إثراء الحياة السياسية بفكره كان بنيّة جمعه رحمه الله بين هدفي الدفاع عن الأصالة والانتماء العربيّ والإسلاميّ وللامازيغية، والانفتاح على العالم، كما أنّه ساهم في تقديم صورة جميلة عن الجزائر العريقة التي تحافظ على التقاليد وتسعى نحو الحداثة والعصرنة، بمعنى أنّه كان يسعى للمزاوجة بين مسعى ترسيخ قيم إسلام والعروبة وتوطين الحداثة والتقدّم، وقال عبد الحميد مهري أنّ مولود قاسم نايت بلقاسم: “كان يكرّس معالم النهضة في ملتقيات الفكر الإسلامي”، معتبرا أنّ من انتقده ذلك الوقت كان يريد أن يلصق به تهمة التشدّد، وهو لم يكن ليألو أيّ جهد في سبيل الوصول إلى ما كان يصبو إليه.
حبّه الشديد للجزائر واللغة العربية
كان مولود قاسم آيت بلقاسم مدافعا قويا عن الجزائر، وكان يحرّض الجزائر برمتها حكومة وشعبا حتى تلعب الجزائر دورها التاريخيّ أمام المستدمر الفرنسيّ السابق، الذي نهب ثروات البلاد قبل الاستقلال وقتل شعب الجزائر ودمّر أرضه، وهو يسعى بعد الاستقلال في سبيل تشويه تاريخ الجزائر، وقال للرئيس هواري بومدين حين قال له الرئيس الفرنسيّ السابق جيسكار ديستان: “إنّ فرنسا التاريخية تمدّ يدها للجزائر الفتيّة”، قال للرئيس بومدين: “سيادة الرئيس إنّه جيسكار ديستان يشتمنا”، وكأنّي به مذكّرا الجزائريين بأنّ فرنسا تسعى للتشكيك في الكيان الجزائريّ الذي تدّعي أنّه لم يكن موجودا قبل سنة 1830، ويذكّرنا موقفه هذا بقولة الشيخ عبد الحميد بن باديس الشهيرة: “لو قالت لي فرنسا قل لا إله إلا الله لما قلتها”، لقد كان مولود قاسم صارما وشديدا بهذا الخصوص أيضا، وقال مخاطبا الرئيس بومدين: “أفضّل أن أكون بوابا في السويد على أن أكون وزيرا في حكومة ضعيفة في الجزائر”، وقد روي أنّه قرّر عدم النزول من الطائرة في زيارة كان قد أجراها لروسيا سنة 1971 لأنّ وزير الخارجية الروسيّ لم يكن في استقباله، قائلا أنّه يرفض هذه السلوكات التي تنتقص من قيمة الجزائر، وعلى إثر هذه الحادثة قدّم استقالته إلى الرئيس بومدين لكنّ الأخير رفضها، فدعا مولود قاسم نايت بلقاسم القيادة الجزائرية إلى التشدّد في الدفاع عن مصالح الشعب والوطن.
درس مولود قاسم نايت بلقاسم تاريخ الجزائر وتمعّن في أصل شعبه الأمازيغيّ، ووجد أنّ على الجزائريين الافتخار بأجدادهم الأمازيغيين، مذكّرا بدور القائد الإسلاميّ الكبير طارق بن زياد في الفتوحات الإسلامية وفتح الأندلس، ولشدّة حبّه للتاريخ الأمازيغيّ أطلق اسم يوغرطة على نجله الأكبر. وكان يؤلمه كثيرا لجوء بعض الإخوة العرب إلى التشكيك في عروبة الجزائر، وكان غضبه حيال تلك الأقاويل لا يقلّ عن غضب الشيخ البشير الإبراهيميّ الذي كان يقاوم كذلك مثل هذه الإدّعاءات، إذ يقال أنّ الأديب المصري الراحل، دكتور طه حسين ألقى خطابا في حضرة الكتّاب العرب في خمسينيات القرن الماضي بالقاهرة، وقال: “أحسب أنّ العالم العربي مثل طائر إحدى جناحيه في سوريا والعراق والأخر في الخليج العربي، وقلبه في مصر، وذيله في المغرب العربي”، ويقال أنّ رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشيخ الإبراهيميّ قد استشاط غضبا، وقال في ردّه على هذا المثال: “أحسب أنّ الدكتور الفاضل طه حسين كان يقصد في مثاله “طائر الطاووس” وأجمل ما فيه ذيله”.
هذه المسألة أشار إليها الدكتور عبد المالك مرتاض الذي لام كثيرا -في سياق آخر- تجاهل الإخوة العرب لإخوانهم الجزائريين والمغاربة، فقال: “في الوقت الذي يعرف فيه الجزائريون كل شيء عن المشرق لا يعرف المشارقة أي شيء عن الجزائر”، وبهذا الخصوص نستحسن جهود مجلة العربي المرموقة في السعي إلى جسر الهوة بين المشرق والمغرب، في مشروعها البحثيّ السبّاق، والموسوم بـ: “حوار المشارقة والمغاربة”، والذي شارك في إعداده عدد من الكتاب المغاربة المرموقين إضافة إلى كتاب المشرق العربيّ، لنقل جزء من الحقائق المجهولة عن إخوانهم في المغرب العربيّ.
مولود بلقاسم… وضوح الرؤية
رفض مولود قاسم نايت بلقاسم أداء الخدمة الوطنية في صفوف الجيش الفرنسيّ عندما كان شابا أثناء فترة الاستخراب الفرنسيّ، وكان قد قرّر حينها الاعتكاف في الزاوية الدينية والاشتغال بتعلّم الفقة وعلوم الدين وحفظ القرآن الكريم والتفاسير، وكان لا يخشى عصيان السلطات الفرنسية لأنّّه رفض بشدّة الدفاع عن العلم الفرنسيّ قائلا أنّه لن يدافع إلاّ عن العلم الجزائريّ، وهو ما يبرّر رعايته عندما كان وزيرا للشؤون الدينية لمتقيات الفكر الإسلاميّ في سبعينيات القرن الماضي، حيث كان دارسا للفقه والفكر الإسلاميّ، وقد لقيت مبادرة ملتقيات الفكر الإسلاميّ استحسان الشيخ محمد الغزالي رحمه الله عندما كان يرأس جامعة الأمير عبد القادر الإسلامية بمدينة قسنطينة، ويذكر الجزائريون قولة الشيخ الغزالي عن الملتقيات التاريخية التي رعاها العلامة مولود قاسم، حين قال في مرّة من المرّات: “تذكرني هذه الحرية الفكرية في الجزائر، بموقف طريف حدث بين أخوين مسلمين في أمريكا، كانا يتحاوران في حرية فكرية، وكان أحدهما محبا لسيدنا عليّ كرّم الله وجهه والآخر محبا لسيدنا عثمان بن عفّان رضي الله عنه، وبجانبهما مواطن أمريكيّ، فسألهما قائلا: هل هذان الرجلان مرشحان للرئاسة في بلدكما؟، فقالا له لا، لقد حدث ذلك قبل 14 قرنا، فتعجّب الرجل وقال: بعد كلّ هذه القرون ولا تزالان تناقشان برامجهما الانتخابية؟”، فضحك جمهور ملتقيات الفكر الإسلاميّ ومنهم العلامة مولود قاسم نايت بلقاسم.
مولود قاسم… التواضع والأنفة
فجّر الدكتور بوعلام بن حمودة الأمين العام السابق لحزب جبهة التحرير الوطنيّ مفاجأة بقوله أنّه كان دائم التحايل على مولود قاسم نايت بلقاسم داعيا إيّاه للسعي إلى استرجاع اسمه الثوريّ، لضمان حقوقه ومصالحه الاجتماعية، غير أنّ الرجل رفض في غضب شديد، قائلا أنّه لم يكن يريد مقابلا عن واجب طلبته الجزائر، فأجمل كلمة تصف الرجل أنّه “خدم دينه ولغته ووطنه بشكل أسطوري”.
وقال الشيخ بوعمران رئيس المجلس الإسلاميّ الأعلى أنّه وقف على عظمة مولود قاسم نايت بلقاسم عندما سافر معه إلى ملتقى إسلاميّ عقد في قرطبة اسبانيا، وقال أنّ للرجل ثقافة واسعة وخبرة في عدّة لغات عالمية جعلته يندهش من معرفة هذه الحقيقة، وقال أنّ شغفه لتعلّم المزيد من المعارف كان كبيرا، حيث كان يسأل الشيخ بوعمران أن يدلّه على المساجد والمكتبات الموجودة في اسبانيا والتي لم يكن يعرفها.
كان العلامة الراحل مولود قاسم نايت بلقاسم مسكونا بمصير اللغة العربية وبهموم الأمة الإسلامية رحمه الله، لذلك كان دائما يحثّ أبناءه على حبّ الإسلام واللغة العربية، لقد كان رجلا محبا لانتمائه العربي الإسلاميّ، قاصدا في الدفاع عن العروبة إذا فعل، ومبرزا لدور الحضارة الإسلامية في المحافل الدولية، رجل جمع بين الأصالة والمعاصرة، قوي العزيمة سديد الكلمة، كبير الشأن رفيع المقام، هذا العالم الذي خصّه الرئيس الراحل هواري بومدين بمكانة خاصة حين عيّنه وزيرا في حكومته، وكلّفه بتولي مشروع “التعريب” في البلاد، بدء بالتعليم في الجزائر التي انتشرت بها لغة الهيمنة الفرنسية بعد 132 عاما من الاستخراب الفرنسيّ للعقول والنفوس الجزائرية العربية المسلمة، لذلك لا بدّ على أبنائه في الجزائر أن يسعوا لحماية اللغة العربية والدفاع عن القيم الإسلامية والتشبّث بها في ظلّ استمرار المدّ الثقافيّ الفرنكفونيّ في الجزائر، لأولى معاقل اللغة الفرنسية في العالم بعد فرنسا.